الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مناسك الحج والعمرة **
من الأنساك، وما صفة الهدي سبق في الفصل الثالث أن الأنساك ثلاثة: التمتع والقِران والإفراد، والذي يجب به الهديُ هو التمتع والقِرآن. والمتمتع: هو مَن أحرم بالعمرة في أشهر الحج ثم حَلّ منها وأحرم بالحج في عامِه، فلو أحرم بالعمرة قبل دخول شهر شوال، وبقي في مكة ثم حج في عامه فلا هدي عليه لأنه ليس بمتمتع، حيث كان إحرامه بالعمرة قبل دخول أشهر الحج. ولو أحرم بالعمرة بعد دخول شوال وحج من العام الثاني، فلا هدي عليه أيضًا لأن العمرة في عامٍ والحج في عام آخر. ولو أحرم بالعمرة في أشهر الحج، وحل منها ثم رجع إلى بلده وعاد منه مُحرمًا بالحج وحده لم يكن متمتعًا لأنه أفرد الحج بسفر مستقل. وأما القِران: فهو أن يُحرم بالعمرة والحج معًا، أو يُحرم بالعمرة أولًا ثم يُدخل الحج عليها قبل الشروع في طوافها كما سبق. ولا يجب الهدي على المتمتع والقارن إلا بشرط أن لا يكونا من حاضري المسجد الحرام، أي: لا يكونا من سكان مكة أو الحرم، فإن كانوا من سكان مكة أو الحرم فلا هدي عليهم لقوله تعالى: ويلزم الهدي أهل جُدّة إذا أحرموا بتمتع أو قِران، لأنهم ليسوا من حاضري المسجد الحرام. ومَن كان مِن سُكان مكة ثم سافر إلى غيرها لطلب علم أو غيره، ثم رجع إليها متمتعًا أو قارنًا فلا هدي عليه لأن العبرة بمحل إقامته ومسكنه وهو مكة. أما إذا كان من أهل مكة ولكن انتقل للسكنى في غيرها ثم رجع إليها متمتعًا أو قارنًا فإنه يلزمه الهدي، لأنه حينئذ ليس من حاضري المسجد الحرام. ومتى عَدِمَ المتمتع والقارن الهدي أو ثمنه بحيث لا يكونُ معه من المال إلا ما يحتاجه لنفقته ورجوعه فإنه يسقط عنه الهدي، ويلزمه الصوم؛ لقوله تعالى: ويجوز أن يصوم الأيام الثلاثة في أيام التشريق؛ وهي اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجة، لقول عائشة وابن عمر رضي الله عنهم: ويجوز أن يصومها قبل ذلك، بعد الإحرام بالعمرة إذا كان يعرف من نفسه أنه لا يستطيع الهدي، لقول النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ : لكن لا يصوم هذه الأيام يوم العيد لحديث أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ ويجوز أن يصوم هذه الثلاثة متوالية ومتفرقة، ولكن لا يؤخرها عن أيام التشريق. وأما السبعة الباقية فيصومها إذا رجع إلى أهله إن شاء متوالية، وإن شاء متفرقة، لأن الله سبحانه أوجبها ولم يشرط أنها متتابعة. مسائل تتعلق بالهدي المسألة الأولى: في بيان نوع الهدي. المسألة الثانية: فيما يجبُ أو ينبغي أن يتوافر فيه. المسألة الثالثة: في مكان ذبحه. المسألة الرابعة: في وقت ذبحه. المسألة الخامسة: في كيفية الذبح المشروع. المسألة السادسة: في كيفية توزيعه. فأما نوع الهدي: فهو من الإبل أو البقر أو الغنم الضأن والمعز لقوله تعالى: وبهيمة الأنعام هي الإبل والبقر والغنم. وتجزىء الواحدة من الغنم في الهدي عن شخص واحد. وتُجزئ الواحدة من الإبل أو البقر عن سبعة أشخاص لحديث جابر رضي الله عنه قال: وأما ما يجبُ أن يتوافر فيه: فيجب أن يتوافر فيه شيئان: 1 ـ بلوغ السن الواجب وهو خمس سنين في الإبل، وسنتان في البقر، وسنة في المعز، وستة أشهر في الضأن، فما دون ذلك لا يُجزئ لقول النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ : 2 ـ السلامة من العيوب الأربعة التي أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ باتقائها وهي: ـ العوراء البيِّن عورها والعمياء أشد فلا تُجزئ. ـ المريضة البيِّن مرضها بجرب أو غيره. ـ العرجاء البيِّن ضلعها، والزمنى التي لا تمشي، ومقطوعة إحدى القوائم أشدُّ. ـ الهزيلة التي لا مُخَّ فيها. لما روى مالك في "الموطأ" عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ سُئل: ماذا يُتقى من الضحايا، فأشار بيده وقال: أربعًا، وكان البراء يُشيُر بيده ويقولُ: يدي أقصر من يد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلّم ـ العرجاء البيِّن ضلعها، والعوراء البيِّن عَورها، والمريضة البيِّن مرضها، والعجفاء التي لا تُنقى. فأما العيوب التي دون ذلك كعيب الأذن والقرن فإنها تُكره، ولا تمنع الإجزاء على القولِ الراجح. وأما ما ينبغي أن يتوافر في الهدي، فينبغي أن يتوافر فيه السمن والقوة وكبر الجسم وجمال المنظر، فكلما كان أطيب فهو أحب إلى الله عز وجل، وإن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا. وأما مكان ذبح الهدي: ففي منى، ويجوز في مكة وفي بقية الحرَم، لقول النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ : وقال الشافعي رحمه الله: الحرَم كله منحر؛ حيث نحر منه أجزأه في الحج والعمرة. وعلى هذا فإذا كان ذبحُ الهدي بمكة أَفيد وأنفع للفقراء فإنه يذبح في مكة، إما في يوم العيد، أو في الأيام الثلاثة بعده. ومَنْ ذبح الهدي خارج حدود الحرم في عرفة أو غيرها من الحِلِّ لم يُجزِئه على المشهور. وأما وقت الذبح: فهو يوم العيد إذا مضى قدر فعل الصلاة بعد ارتفاع الشمس قدرَ رُمحٍ إلى آخرِ أيام التشريق، لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ نحر هديه ضحى يوم العيد، ويُروى عنه ـ صلى الله عليه وسلّم ـ أنه قال: فلا يجوز تقديم ذبح هدي التمتع والقران على يوم العيد، لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ لم يذبح قبل يوم العيد وقال: ويجوز الذبح في هذه الأيام الأربعة ليلًا ونهارًا، ولكن النهار أفضل. وأما كيفية ذبح الهدي: فالسنة نَحرُ الإبل قائمة معقولة يدها اليسرى، فإن لم يتيسر نحرها قائمةً فباركة. والسنة في غير الإبل الذبحُ مُضجعة على جنبها. والفرق بين النحر والذبح أن النحر في أسفل الرقبة مما يلي الصدر، والذبح في أعلاها مما يلي الرأس. ولا بد في النحر والذبح من إنهار الدم بقطع الودجين لقول النبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ : وإنهارُ الدم يكون بقطع الودَجين؛ وهما العرقان الغليظان المُحيطان بالحُلقوم، وتمام ذلك بقطع الحُلقوم والمرىء أيضًا. ولا بد من قول الذابح: "بسم الله" عند الذبح أو النحر، فلا تُؤكل الذبيحة إذا لم يذكر اسم الله عليها، لقوله تعالى: وأما كيفية توزيع الهدي: فقد قال الله تعالى: فالسنة أن يأكل من هديه ويُطعم منه غيره، ولا يكفي أن يذبح الهدي ويرمي به بدون أن يتصدق منه وينتفع به، لأن هذا إضاعةٌ للمال، ولا يحصل به الإطعام الذي أمر الله به، إلا أن يكونَ الفقراء حوله فيذبحه ثم يُسلمه لهم، فحينئذ يبرأ منه. فعلى الحاجِّ أن يعتني بهديه من جميع هذه النواحي ليكون هديًا مقبولًا مقربًا له إلى الله عز وجل، ونافعًا لعباد الله. واعلم أن إيجاب الهدي على المتمتع والقارن، أو الصيام عند العدم، ليس غُرمًا على الحاج، ولا تعذيبًا له بلا فائدة، وإنما هو من تمام النسك وكماله، ومن رحمة الله وإحسانه، حيث شرع لعباده ما به كمال عبادتهم وتقرُّبهم إلى ربهم، وزيادة أجرهم، ورفعةُ درجاتهم، والنفقة فيه مخلوفةٌ، والسعي فيه مشكور، فهو نعمة من الله تعالى يستحق عليها الشكر بذبح الهدي، أو القيام ببدله، ولهذا كان الدم فيه دم شُكران لا دم جبران، فيأكل منه الحاج ويهدي ويتصدق. وكثيرٌ من الناس لا تخطُرُ ببالهم هذه الفائدة العظيمة، ولا يحسبون لها حسابًا، فتجدهم يتهربون من وجوب الهدي، ويسعون لإسقاطه بكل وسيلة، حتى إن منهم من يأتي بالحج مفردًا من أجل أن لا يجب عليهم الهدي أو الصيام، فيَحرمون أنفسهم أجر التمتع وأجرَ الهدي أو بدلَه، والله المستعان.
|